فصل: إذَا مَاتَ الذّبَابُ فِي مَائِعٍ لَا يُنَجّسُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إصْلَاحِ الطّعَامِ الّذِي يَقَعُ فِيهِ الذّبَابُ وَإِرْشَادِهِ إلَى دَفْعِ مَضَرّاتِ السّمُومِ بِأَضْدَادِهَا:

فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا وَقَعَ الذّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ فَإِنّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَحَدُ جَنَاحَيْ الذّبَابِ سَمّ وَالْآخَرُ شِفَاءٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنّهُ يُقَدّمُ السّمّ وَيُؤَخّرُ الشّفَاءَ.

.إذَا مَاتَ الذّبَابُ فِي مَائِعٍ لَا يُنَجّسُهُ:

هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ فَأَمّا الْفِقْهِيّ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرُ الدّلَالَةِ جِدّا عَلَى أَنّ الذّبَابَ إذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَإِنّهُ لَا يُنَجّسُهُ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُعْرَفُ فِي السّلَفِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَهُوَ غَمْسُهُ فِي الطّعَامِ وَمَعْلُومٌ أَنّهُ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الطّعَامُ حَارّا. فَلَوْ كَانَ يُنَجّسُهُ لَكَانَ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الطّعَامِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا أَمَرَ بِإِصْلَاحِهِ ثُمّ عُدّيَ هَذَا الْحُكْمُ إلَى كُلّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالنّحْلَةِ وَالزّنْبُورِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ بِعُمُومِ عِلّتِهِ وَيَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ فَلَمّا كَانَ سَبَبُ التّنْجِيسِ هُوَ الدّمَ الْمُحْتَقِنَ فِي الْحَيَوَانِ بِمَوْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مَفْقُودًا فِيمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ انْتَفَى الْحُكْمُ بِالتّنْجِيسِ لِانْتِفَاءِ عِلّتِهِ. ثُمّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ عَظْمِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فِي الْحَيَوَانِ الْكَامِلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَعَدَمِ الصّلَابَةِ فَثُبُوتُهُ فِي الْعَظْمِ الّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَاحْتِقَانِ الدّمِ أَوْلَى وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوّةِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَأَوّلُ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِهَذِهِ اللّفْظَةِ فَقَالَ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ إبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ وَعَنْهُ تَلَقّاهَا الْفُقَهَاءُ- وَالنّفْسُ فِي اللّغَةِ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ الدّمِ وَمِنْهُ نَفَسَتْ الْمَرْأَةُ- بِفَتْحِ النّونِ- إذَا حَاضَتْ وَنُفِسَتْ- بِضَمّهَا- إذَا وَلَدَتْ.

.فَائِدَةُ غَمْسِ الذّبَابِ:

وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى اُمْقُلُوهُ اغْمِسُوهُ لِيَخْرُجَ الشّفَاءُ مِنْهُ كَمَا خَرَجَ الدّاءُ يُقَالُ لِلرّجُلَيْنِ هُمَا يَتَمَاقَلَانِ إذَا تَغَاطّا فِي الْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنّ فِي الذّبَابِ عِنْدَهُمْ قُوّةً سَمّيّةً يَدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السّلَاحِ فَإِذَا سَقَطَ فِيمَا يُؤْذِيهِ اتّقَاهُ بِسِلَاحِهِ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السّمّيّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ مِنْ الشّفَاءِ فَيُغْمَسُ كُلّهُ فِي الْمَاءِ وَالطّعَامِ فَيُقَابِلُ الْمَادّةَ السّمّيّةَ الْمَادّةُ النّافِعَةُ فَيَزُولُ ضَرَرُهَا وَهَذَا طِبّ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كِبَارُ الْأَطِبّاءِ وَأَئِمّتُهُمْ بَلْ هُوَ خَارِجٌ مِنْ مِشْكَاةِ النّبُوّةِ وَمَعَ هَذَا فَالطّبِيبُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ الْمُوَفّقُ يَخْضَعُ لِهَذَا الْعِلَاجِ وَيُقِرّ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَنّهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنّهُ مُؤَيّدٌ بِوَحْيٍ إلَهِيّ خَارِجٍ عَنْ الْقُوَى الْبَشَرِيّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَطِبّاءِ أَنّ لَسْعَ الزّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ إذَا دُلِكَ مَوْضِعُهُ بِالذّبَابِ نَفَعَ مِنْهُ نَفْعًا بَيّنًا وَسَكّنَهُ وَمَا ذَاكَ إلّا لِلْمَادّةِ الّتِي فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَإِذَا دُلِكَ بِهِ الْوَرَمُ الّذِي يَخْرُجُ فِي شَعْرِ الْعَيْنِ الْمُسَمّى شَعْرَةً بَعْدَ قَطْعِ رُءُوسِ الذّبَابِ أَبْرَأَهُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْبَثْرَةِ:

ذَكَرَ ابْنُ السّنّيّ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَرَجَ فِي أُصْبُعِي بَثْرَةٌ فَقَالَ عِنْدَكِ ذَرِيرَةٌ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ ضَعِيهَا عَلَيْهَا وَقُولِي: اللّهُمّ مُصَغّرَ الْكَبِيرِ وَمُكَبّرَ الصّغِيرِ صَغّرْ مَا بِي الذّرِيرَةُ دَوَاءٌ هِنْدِيّ يُتّخَذُ مِنْ قَصَبِ الذّرِيرَةِ وَهِيَ حَارّةٌ يَابِسَةٌ تَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَتُقَوّي الْقَلْبَ لِطِيبِهَا وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلّ وَالْإِحْرَامِ. وَالْبَثْرَةُ خُرّاجٌ صَغِيرٌ يَكُونُ عَنْ مَادّةٍ حَارّةٍ تَدْفَعُهَا الطّبِيعَةُ فَتَسْتَرِقُ مَكَانًا مِنْ الْجَسَدِ تَخْرُجُ مِنْهُ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُنْضِجُهَا وَيُخْرِجُهَا وَالذّرِيرَةُ أَحَدُ مَا يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ فَإِنّ فِيهَا إنْضَاجًا وَإِخْرَاجًا مَعَ طِيبِ رَائِحَتِهَا مَعَ أَنّ فِيهَا تَبْرِيدًا لِلنّارِيّةِ الّتِي فِي تِلْكَ الْمَادّةِ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: إنّهُ لَا أَفْضَلَ لِحَرْقِ النّارِ مِنْ الذّرِيرَةِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْخَلّ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَوْرَامِ وَالْخُرّجَاتِ الّتِي تَبْرَأُ بِالْبَطّ وَالْبَزْلِ:

يُذْكَرُ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ بِظَهْرِهِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ بِهَذِهِ مِدّةٌ. قَالَ بُطّوا عَنْهُ قَالَ عَلِيّ: فَمَا بَرِحْتُ حَتّى بُطّتْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاهِدٌ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ يَنْفَعُ الطّبّ؟ قَالَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ أَنْزَلَ الشّفَاءَ فِيمَا شَاءَ الْوَرَمُ مَادّةٌ فِي حَجْمِ الْعُضْوِ لِفَضْلِ مَادّةٍ غَيْرِ طَبِيعِيّةٍ تَنْصَبّ إلَيْهِ وَيُوجَدُ فِي أَجْنَاسِ الْأَمْرَاضِ كُلّهَا وَالْمَوَادّ الّتِي تَكَوّنَ عَنْهَا مِنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَائِيّةِ وَالرّيحِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْوَرَمُ سُمّيَ خُرّاجًا وَكُلّ وَرَمٍ حَارّ يُؤَوّلُ أَمْرُهُ إلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمّا تَحَلّلٍ وَإِمّا جَمْعِ مِدّةٍ وَإِمّا اسْتِحَالَةٍ إلَى الصّلَابَةِ. فَإِنْ كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً اسْتَوْلَتْ عَلَى مَادّةِ الْوَرَمِ وَحَلّلَتْهُ وَهِيَ أَصْلَحُ الْحَالَاتِ الّتِي يُؤَوّلُ حَالُ الْوَرَمِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ ذَلِكَ أَنْضَجَتْ الْمَادّةَ وَأَحَالَتْهَا مِدّةً بَيْضَاءَ وَفَتَحَتْ لَهَا مَكَانًا أَسَالَتْهَا مِنْهُ. وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ أَحَالَتْ الْمَادّةَ مِدّةً غَيْرَ مُسْتَحْكِمَةٍ النّضْجَ وَعَجَزَتْ عَنْ فَتْحِ مَكَانٍ فِي الْعُضْوِ تَدْفَعُهَا مِنْهُ فَيُخَافُ عَلَى الْعُضْوِ الْفَسَادُ بِطُولِ لُبْثِهَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى إعَانَةِ الطّبِيبِ بِالْبَطّ أَوْ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ تِلْكَ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُضْوِ. وَفِي الْبَطّ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: إخْرَاجُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ.
وَالثّانِيَةُ مَنْعُ اجْتِمَاعِ مَادّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا تُقَوّيهَا. وَأَمّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثّانِي: إنّهُ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى فَالْجَوَى يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: الْمَاءُ الْمُنْتِنُ الّذِي يَكُونُ فِي الْبَطْنِ يَحْدُثُ عَنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي بَزْلِهِ لِخُرُوجِ هَذِهِ الْمَادّةِ فَمَنَعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِخَطَرِهِ وَبُعْدِ السّلَامَةِ مَعَهُ وَجَوّزَتْهُ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَقَالَتْ لَا عِلَاجَ لَهُ سِوَاهُ وَهَذَا عِنْدَهُمْ إنّمَا هُوَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الزّقّيّ فَإِنّهُ كَمَا تَقَدّمَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ طَبْلِيّ وَهُوَ الّذِي يَنْتَفِخُ مَعَهُ الْبَطْنُ بِمَادّةٍ رِيحِيّةٍ إذَا ضَرَبْت عَلَيْهِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الطّبْلِ وَلَحْمِيّ وَهُوَ الّذِي يَرْبُو مَعَهُ لَحْمُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِمَادّةٍ بَلْغَمِيّةٍ تَفْشُو مَعَ الدّمِ فِي الْأَعْضَاءِ وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ الْأَوّلِ وَزِقّيّ وَهُوَ الّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ مَادّةٌ رَدِيئَةٌ يُسْمَعُ لَهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ خَضْخَضَةٌ كَخَضْخَضَةِ الْمَاءِ فِي الزّقّ وَهُوَ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأَطِبّاءِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ اللّحْمِيّ لِعُمُومِ الْآفَةِ بِهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ عِلَاجِ الزّقّيّ إخْرَاجُ ذَلِكَ بِالْبَزْلِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فَصْدِ الْعُرُوقِ لِإِخْرَاجِ الدّمِ الْفَاسِدِ لَكِنّهُ خَطَرٌ كَمَا تَقَدّمَ وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَزْلِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَرْضَى بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ:

رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ فَإِنّ ذَلِكَ لَا يَرُدّ شَيْئًا وَهُوَ يُطَيّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ» وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعٌ شَرِيفٌ جِدّا مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجِ وَهُوَ الْإِرْشَادُ تَقْوَى بِهِ الطّبِيعَةُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ الْقُوّةُ وَيَنْبَعِثُ بِهِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيَتَسَاعَدُ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا الّذِي هُوَ غَايَةُ تَأْثِيرِ الطّبِيبِ. وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ وَإِدْخَالُ مَا يَسُرّهُ عَلَيْهِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلّتِهِ وَخِفّتِهَا فَإِنّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ فَتُسَاعِدُ الطّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبّونَهُ وَيُعَظّمُونَهُ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ إيّاهُمْ وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الّتِي تَتَعَلّقُ بِهِمْ فَإِنّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْفَوَائِدِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَائِدِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَامّةِ. وَقَدْ تَقَدّمَ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَنْ شَكْوَاهُ وَكَيْفَ يَجِدُهُ وَيَسْأَلُهُ عَمّا يَشْتَهِيهِ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَرُبّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي عِلّتِهِ وَرُبّمَا تَوَضّأَ وَصَبّ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ وَضُوئِهِ وَرُبّمَا كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللّهُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ اللّطْفِ وَحُسْنِ الْعِلَاجِ وَالتّدْبِيرِ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ بِمَا اعْتَادَتْهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ دُونَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ:

هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ وَأَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ الطّبِيبُ أَضَرّ الْمَرِيضَ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يَنْفَعُهُ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي كُتُبِ الطّبّ إلّا طَبِيبٌ جَاهِلٌ فَإِنّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ وَالْأَكّارُونَ وَغَيْرُهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ شَرَابُ اللّينُوفَرِ وَالْوَرْدُ الطّرِيّ وَلَا الْمَغْلِيّ وَلَا يُؤَثّرُ فِي طِبَاعِهِمْ شَيْئًا بَلْ عَامّةُ أَدْوِيَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَأَهْلِ الرّفَاهِيَةِ لَا تُجْدِي عَلّهمْ وَالتّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَمَنْ تَأَمّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَاجِ النّبَوِيّ رَآهُ كُلّهُ مُوَافِقًا لِعَادَةِ الْعَلِيلِ وَأَرْضِهِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَقَدْ صَرّحَ بِهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ الطّبّ حَتّى قَالَ طَبِيبُ الْعَرَبِ بَلْ أَطَبّهُمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ وَكَانَ فِيهِمْ كَابُقْرَاطَ فِي قَوْمِهِ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءِ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ. وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ الْأَزْمُ دَوَاءٌ وَالْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ يَعْنِي بِهِ الْجُوعَ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الِامْتِلَائِيّةِ كُلّهَا بِحَيْثُ إنّهُ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ الْمُسْتَفْرَغَاتِ إذَا لَمْ يَخِفّ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدّتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا. وَقَوْلُهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ. الْمَعِدَةُ عُضْوٌ عَصَبِيّ مُجَوّفٌ كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهَا مُرَكّبٌ مِنْ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلّفَةٍ مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيّةٍ تُسَمّى اللّيفَ وَيُحِيطُ بِهَا لَحْمٌ وَلِيفٌ إحْدَى الطّبَقَاتِ بِالطّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ وَالثّالِثَةُ بِالْوَرْبِ وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا خُلِقَتْ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ لِحِكْمَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ بَيْتُ الدّاءِ وَكَانَتْ مَحَلّا لِلْهَضْمِ الْأَوّلِ وَفِيهَا يَنْضَجُ الْغِذَاءُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ وَيَتَخَلّفُ مِنْهُ فِيهَا فَضَلَاتٌ قَدْ عَجَزَتْ الْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهَا إمّا لِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ لِرَدَاءَتِهِ أَوْ لِسُوءِ تَرْتِيبٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْضُهَا مِمّا لَا يَتَخَلّصُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ غَالِبًا فَتَكُونُ الْمَعِدَةُ بَيْتَ الدّاءِ لِذَلِكَ وَكَأَنّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْحَثّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَمَنْعِ النّفْسِ مِنْ اتّبَاعِ الشّهَوَاتِ وَالتّحَرّزِ عَنْ الْفَضَلَاتِ. وَأَمّا الْعَادَةُ فَلِأَنّهَا كَالطّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ وَهِيَ عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتّى إنّ أَمْرًا وَاحِدًا إذَا قِيسَ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ كَانَ مُخْتَلِفَ النّسْبَةِ إلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَبْدَانُ مُتّفِقَةً فِي الْوُجُوهِ الْأُخْرَى مِثَالُ ذَلِكَ أَبْدَانٌ ثَلَاثَةٌ حَارّةُ الْمِزَاجِ فِي سِنّ الشّبَابِ:
أَحَدُهَا: عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَارّةِ.
وَالثّانِي: عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ.
وَالثّالِثُ عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَوَسّطَةِ.
فَإِنّ الْأَوّلَ مَتَى تَنَاوَلَ عَسَلًا لَمْ يَضُرّ بِهِ وَالثّانِي: مَتَى تَنَاوَلَهُ أَضَرّ بِهِ وَالثّالِثُ يَضُرّ بِهِ قَلِيلًا فَالْعَادَةُ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَمُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعِلَاجُ النّبَوِيّ بِإِجْرَاءِ كُلّ بَدَنٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَغْذِيَةِ الْمَرِيضِ بِأَلْطَفِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ:

فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ مَنْ أَهْلِهَا وَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النّسَاءُ ثُمّ تَفَرّقْنَ إلَى أَهْلِهِنّ أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمّ صُبّتْ التّلْبِينَةُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَتْ كُلُوا مِنْهَا فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ التّلْبِينَةُ مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ وَفِي السّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النّافِعِ التّلْبِين قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النّارِ حَتّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ. يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ. وَعَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا قِيلَ لَهُ إنّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطّعَامَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالتّلْبِينَةِ فَحَسّوهُ إيّاهَا وَيَقُولُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنّ وَجْهَهَا مِنْ الْوَسَخِ.

.التّلْبِينُ وَفَوَائِدُهُ:

التّلْبِينُ هُوَ الْحِسَاءُ الرّقِيقُ الّذِي هُوَ فِي قِوَامِ اللّبَنِ وَمِنْهُ اُشْتُقّ اسْمُهُ قَالَ الْهَرَوِيّ سُمّيَتْ تَلْبِينَةً لِشَبَهِهَا بِاللّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقّتِهَا وَهَذَا الْغِذَاءُ هُوَ النّافِعُ لِلْعَلِيلِ وَهُوَ الرّقِيقُ النّضِيحُ لَا الْغَلِيظُ النّيءُ وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضْلَ التّلْبِينَةِ فَاعْرِفْ فَضْلَ مَاءِ الشّعِيرِ بَلْ هِيَ مَاءُ الشّعِيرِ لَهُمْ فَإِنّهَا حِسَاءٌ مُتّخَذٌ مِنْ دَقِيقِ الشّعِيرِ بِنُخَالَتِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاءِ الشّعِيرِ أَنّهُ يُطْبَخُ صِحَاحًا وَالتّلْبِينَةُ تُطْبَخُ مِنْهُ مَطْحُونًا وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِخُرُوجِ خَاصّيّةِ الشّعِيرِ بِالطّحْنِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ لِلْعَادَاتِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ أَنْ يَتّخِذُوا مَاءَ الشّعِيرِ مِنْهُ مَطْحُونًا لَا صِحَاحًا وَهُوَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَعْظَمُ جَلَاءً وَإِنّمَا اتّخَذَهُ أَطِبّاءُ الْمُدُنِ مِنْهُ صِحَاحًا لِيَكُونَ أَرَقّ وَأَلْطَفَ فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ وَهَذَا بِحَسَبِ طَبَائِعِ أَهْلِ الْمُدُنِ وَرَخَاوَتِهَا وَثِقَلِ مَاءِ الشّعِيرِ الْمَطْحُونِ عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَاءَ الشّعِيرِ مَطْبُوخًا صِحَاحًا يَنْفُذُ سَرِيعًا وَيَجْلُو جَلَاءً ظَاهِرًا وَيُغَذّي غِذَاءً لَطِيفًا. وَإِذَا شُرِبَ حَارّا كَانَ جَلَاؤُهُ أَقْوَى وَنُفُوذُهُ أَسْرَعَ وَإِنْمَاؤُهُ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ أَكْثَرَ وَتَلْمِيسُهُ لِسُطُوحِ الْمَعِدَةِ أَوْفَقَ.

.عِلّةُ ذَهَابِ التّلْبِينَةِ بِبَعْضِ الْحُزْنِ:

وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا: مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ يُرْوَى بِوَجْهَيْنِ. بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَبِضَمّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَوّلُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَنّهَا مُرِيحَةٌ لَهُ أَيْ تُرِيحُهُ وَتُسَكّنُهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهُوَ الرّاحَةُ. وَقَوْلُهُ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ هَذَا- وَاللّهُ أَعْلَمُ- لِأَنّ الْغَمّ وَالْحُزْنَ يُبَرّدَانِ الْمِزَاجَ وَيُضْعِفَانِ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ لِمَيْلِ الرّوحِ الْحَامِلِ لَهَا إلَى جِهَةِ الْقَلْبِ الّذِي هُوَ مَنْشَؤُهَا وَهَذَا الْحِسَاءُ يُقَوّي الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِزِيَادَتِهِ فِي مَادّتِهَا فَتُزِيلُ أَكْثَرَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْغَمّ وَالْحُزْنِ. وَقَدْ يُقَالُ- وَهُوَ أَقْرَبُ- إنّهَا تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ بِخَاصّيّةٍ فِيهَا مِنْ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ إنّ قُوَى الْحَزِينِ تَضْعُفُ بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْسِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَتِهِ خَاصّةً لِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَهَذَا الْحِسَاءُ يُرَطّبُهَا وَيُقَوّيهَا وَيُغَذّيهَا وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيضِ لَكِنّ الْمَرِيضَ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي مَعِدَتِهِ خَلْطٌ مَرَارِيّ أَوْ بَلْغَمِيّ أَوْ صَدِيدِيّ وَهَذَا الْحِسَاءُ يَجْلُو ذَلِكَ عَنْ الْمَعِدَةِ وَيَسْرُوهُ وَيَحْدُرُهُ وَيُمَيّعُهُ وَيُعَدّلُ كَيْفِيّتَهُ وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهُ فَيُرِيحُهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ عَادَتُهُ الِاغْتِذَاءُ بِخُبْزِ الشّعِيرِ وَهِيَ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ ذَاكَ وَكَانَ هُوَ غَالِبَ قُوتِهِمْ وَكَانَتْ الْحِنْطَةُ عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.